بين صخب فاسد للسلطوية الجديدة تنتجه دوائر رسمية ونخب اقتصادية ومالية وإعلامية وحزبية تقبل استتباعها للحكم نظير الحماية والعوائد، وبين نزوع البعض داخل الحركة الديمقراطية المصرية إلى التورط في استدعاء سلطوي ومزدوج المعايير لفكرتي المصداقية الأخلاقية والاتساق الفكري على نحو يمارس ديكتاتورية الرأي الواحد باسم الحق ويرتب رفض الاختلاف باسم الحرية ويحدث باسم العدل ضجيجا لا ينتهي من المزايدات فارغة المضمون، تختلط القيم والمبادئ والمفاهيم على الناس وتتداخل مضامينها لتنفر الكثيرين من مواصلة الاهتمام بالشأن العام وتغيب عن الأذهان مقتضيات إخراج مصر من متواليات الاستبداد والإرهاب والتخلف المتكالبة عليها وتضيع تفاصيل الآراء والمواقف. هنا نصبح إزاء مسئولية عظيمة تتمثل في مقاومة صخب السلطوية الجديدة وضجيج المزايدين دون خوف، وإجلاء المضامين الأساسية لقيم ولمبادئ ولمفاهيم الحق والحرية والعدل دون تردد، والتأسيس لوضع مقتضيات مواجهة الاستبداد والإرهاب والتخلف أعلى سلم أولويات الوطن دون مساومة.
فمصر لا نجاة لها من أزمتها الراهنة، إلا بانتصارنا لثلاثة مقومات جوهرية لوجودنا على أرضها الجميلة: 1) الديمقراطية التي تمكن المواطن من المشاركة بحرية ودون خوف في تحديد جوهر الصالح العام وفي صناعة القرار العام والبناء السلمي للتوافق المجتمعي وتمكنه أيضا من مساءلة ومحاسبة الحكام عبر آليات الانتخابات الحرة والدورية وإجراءات تداول السلطة وتفعيل مؤسسات الرقابة الشعبية وأجهزة مكافحة الفساد وسوء استغلال المنصب العام. 2) سيادة القانون التي تضمن المساواة بين جميع المواطنات والمواطنين وتصون حقوقهم وحرياتهم ومبادراتهم الفردية، وتنص على قواعد التقاضي العادل ومن بينها براءة المتهم حتى تثبت إدانته ومحاكمته أمام قاضيه الطبيعي. 3) الدولة الوطنية صاحبة المؤسسات والأجهزة القادرة على احتكار الاستخدام المشروع للقوة الجبرية للحفاظ على حقوق وحريات المواطن في الواقع المعاش (إنفاذ القانون) وعلى تمكين المجتمع من إدارة علاقاته بسلمية للاقتراب تدريجيا من القيم العليا للتقدم والتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية وعلى حماية النظام العام العادل الذي لا يقايض الأمن بالحرية ولا يخلط بين الاستقرار بمضامينه الإيجابية وبين تورط مؤسسات وأجهزة الدولة في صناعة الاستبداد أو المظالم أو الانتهاكات والفساد تتورط بها مؤسسات وأجهزة الدولة.
الديمقراطية
اليوم في مصر، يلزم الانتصار لمقوم الديمقراطية بما يلي:
المطالبة السلمية بتعديل القواعد الدستورية التي تقر للمؤسسة العسكرية وضعية استثنائية تجعل منها دولة فوق الدولة، وتلغي بشأنها مبادئ الشفافية والرقابة والمساءلة والمحاسبة عبر السلطات التشريعية والتنفيذية المنتخبة، وكذلك النصوص الدستورية التي تشرعن المحاكمات العسكرية للمدنيين.
رفض القوانين والتعديلات القانونية صريحة السلطوية كقانون التظاهر وقانون الكيانات الإرهابية وتعديلات قوانين العقوبات والإجراءات الجنائية والقضاء العسكري وغيرها والدعوة السلمية لتعديلها ديمقراطيا، وجبر الضرر عن ضحاياها من شباب وطلاب يواجهون عقوبات سالبة للحرية ومن مواطنات ومواطنين يواجهون كارثة الحبس الاحتياطي غير المحدد بأفق زمني نهائي أو يزج بهم تباعا إلى القضاء العسكري.
مقاومة مكارثية منظومة الحكم/السلطة التي تفرض على نحو مباشر وعبر وسطائها من النخب الاقتصادية والمالية والإعلامية الرأي الواحد والصوت الواحد، وتوظف هيستيريا العقاب الجماعي والتخوين ومقولات التآمر لاستبعاد الرأي الآخر المدين لانتهاكات الحقوق والحريات، وتستهدف عبر القمع والتهديد المستمر به صناعة حالة من الخوف بين الناس تمكن من إخضاعهم لإرادة الحكم/السلطة أو تهجرهم من المجال العام وتفقدهم من ثم القدرة على مساءلة ومحاسبة الحاكم.
مواجهة الوضعية المزدوجة لموات السياسة كنشاط سلمي وحر وتعددي ولتعويل منظومة الحكم/السلطة على طغيان المكون الأمني على كل ما عداه من اعتبارات في إدارتها لشئون المواطن والمجتمع والدولة ــ والتي تعيد تفاصيل مشهد الانتخابات البرلمانية المقبل التدليل عليها بجلاء صادم.
إذا كانت النجاة بمصر من أزمتها الراهنة تتمثل في الانتصار لمقومات الديمقراطية وسيادة القانون والدولة الوطنية صاحبة المؤسسات والأجهزة المتماسكة بعدلها وشفافيتها، وإذا كان الانتصار لمقوم الديمقراطية يستدعي الإصرار على المطالبة السلمية بتعديل بعض القواعد الدستورية ورفض القوانين والتعديلات القانونية صريحة السلطوية ومقاومة مكارثية الرأي الواحد والصوت الواحد ومواجهة الوضعية المزدوجة لموات السياسة كنشاط سلمي وحر وتعددي ولطغيان المكون الأمني على كل ما عداه من اعتبارات في إدارة منظومة الحكم / السلطة للشأن العام؛ فإن الانتصار لمقوم الديمقراطية يظل اليوم أيضا على ارتباط عضوي بالالتزام بأربعة مواقف مبدئية تؤسس لشرعية الفكرة الديمقراطية التي تفقد دونها المصداقية والتماسك:
أولا، التمييز بين 30 يونيو 2013 التي حملت مطلبا ديمقراطيا واضحا ــ الانتخابات الرئاسية المبكرة كآلية شعبية لإنهاء رئاسة الدكتور محمد مرسي المنتخبة التي عصفت بالدستور وسيادة القانون وتجاهلت مقتضيات التوافق المجتمعي وهددت هوية البلاد، وبين 3 يوليو 2013 التي عطلت الآليات والإجراءات الديمقراطية ومكنت المكون العسكري ــ الأمني من السيطرة على إدارة الشأن العام وورطت مؤسسات وأجهزة الدولة في مظالم وانتهاكات للحقوق وللحريات ودفعت تحت يافطات مرشح الضرورة ورئيس الضرورة بالقيادة العسكرية إلى رئاسة الجمهورية.
ثانيا، إدراك أن إجراء الاستفتاء على الدستور 2014 والانتخابات الرئاسية 2014 ــ على الرغم من التحفظات العديدة التي وردت عليهما لجهة التعبير الحر عن الرأي الآخر وحدود تفعيل حق المواطن في الاختيار (فالترويج لترشح ورئاسة الضرورة رتب إلغاء الكثير من مضامين الحق في الاختيار)، منح ترتيبات حكم ما بعد 3 يوليو 2013 إطارا من المشروعية القانونية، وترجم في صناديق الاقتراع تأييدها من قبل بعض القطاعات الشعبية التي يتعين الامتناع عن الاستعلاء عليها أخلاقيا وإنسانيا وحماية للسلم الأهلي.
ثالثا، غير أن إقرار حضور إطار من المشروعية القانونية ومن القبول الشعبي لترتيبات حكم ما بعد 3 يوليو 2013 لا يعني الصمت عن القواعد الدستورية والقوانين صريحة السلطوية، ولا الصمت عن إماتة السياسة والطغيان الأمني، ولا الصمت عن المظالم والانتهاكات المتراكمة والعصف بسيادة القانون وبمرفق العدالة وشروط التقاضي العادل، ولا الصمت عن تهجير المواطن من المجال العام وفرض مكارثية الرأي الواحد. بل يعني الممارسة المستمرة للمعارضة السلمية والعلنية للسلطوية الجديدة من داخل الوطن وليس من خارجه ــ وإن أغضب هذا من يتناسون حقائق تاريخ وجغرافية مصر وسمات مجتمعها ومع التفرقة الحاسمة بين أوهام العمل المعارض من الخارج وبين الحق الطبيعي في الاهتمام بشئون البلاد والتعبير الحر عن الرأي والانتصار للحقوق وللحريات من الخارج كما في الداخل.
ويعني أيضا دفع المعارضة للعمل على استعادة مسار تحول ديمقراطي حقيقي في مواجهة الحكم وبإصرار على مطلب التداول السلمي والحر للسلطة ــ وبالقطع ليس بتأييد منظومة الحكم / السلطة الحالية ولا من داخلها كما يدعي زيفا بعض المزايدين ورافعي لواء التشويه عند الاختلاف الذين يهددون الفكرة الديمقراطية بالتهافت والركود.
نفر المزايدين هذا يريد للناس ــ وعبثا يريد ــ أن يسقطوا من ذاكرتهم الجمعية ومن وعيهم الراهن مواقف البدايات التي جرت الخطوط الفاصلة بين من رفض الخروج على الآليات والإجراءات الديمقراطية في 3 يوليو 2013 وحذر من هيمنة المكون العسكري ــ الأمني وأدان منذ اللحظة الأولى المظالم وانتهاكات الحقوق والحريات دون معايير مزدوجة وواصل المطالبة بتطبيق العدالة الانتقالية لمساءلة ومحاسبة المتورطين وعارض القواعد الدستورية والقوانين صريحة السلطوية ولم تحد لا مكارثية الصوت الواحد ولا هيستيريا العقاب الجماعي من التزامه بالفكرة الديمقراطية، وبين من أيد / شارك / تبني الرمادي من الآراء / صمت في البدايات ثم (وهو ما يظل أمرا محمودا ولا شك) أعاد النظر فيما بعد. نفر المزايدين هذا يريد للناس ــ وعبثا يريد ــ أن يسقطوا من ذاكرتهم الجمعية ومن وعيهم الراهن الخطوط الفاصلة بين أصحاب المواقف الديمقراطية، وبين من يدفعهم الهوى الأيديولوجي والسياسي أو حسابات المصالح للاقتراب من تبرير العنف وللخلط بين الانتصار للديمقراطية والاستدعاء الفاسد لقيمها ومبادئها لتمرير ممارسة العنف ضد المواطن والمجتمع والدولة الوطنية ويمتنعون بإصرار الباغين عن إعادة النظر والمراجعة والنقد الذاتي.
رابعا، الانتصار لمقوم الديمقراطية بالعمل على الاقتراب اليومي من المواطنات والمواطنين، دون استعلاء أو تمييز، لإحياء التعاطف الشعبي معه وتفكيك المقايضات الفاسدة للسلطوية الجديدة ــ إما الأمن وإما الحرية، إما الخبز وإما الحرية، إما رئيس الضرورة وإما غياب الاستقرار والفوضى والانهيار ــ واستعادة وعي الناس بالروابط الإيجابية بين الديمقراطية وبين الأمن والتنمية المستدامة والتقدم والاستقرار وتماسك المجتمع والدولة وجميعها لا تتحقق إلا بالعدل.
سيادة القانون
إذا كانت أهمية الانتصار لمقوم الديمقراطية تنبع من ضرورته لإخراج مصر من متواليات الاستبداد والإرهاب والتخلف المحيطة بنا، فإن الانتصار لمقوم سيادة القانون يمثل ضرورة كبرى ثانية. فقط سيادة القانون هي التي تضمن المساواة بين جميع المواطنات والمواطنين وفقا لمبادئ راسخة، فقط هي التي تصون حقوقهم وحرياتهم ومبادراتهم الطوعية ــ فردية وجماعية ــ إزاء نزوع الدولة الدائم لإخضاع المواطن والسيطرة على المجال العام، فقط هي التي تنص على قواعد التقاضي العادل ومن بينها براءة المتهم حتى تثبت إدانته ومحاكمته أمام قاضيه الطبيعي.
اليوم في مصر، يستدعي الانتصار لمقوم سيادة القانون ما يلي:
أولا، المطالبة باعتماد قانون لحرية تداول المعلومات ملزم لمؤسسات وأجهزة الدولة. فلا مساواة فعلية بين المواطنات والمواطنين ولا حماية لهم إزاء نزوع الدولة لإخضاعهم دون إقرار حقهم في المعرفة وفي الحصول على المعلومات المتعلقة بالشأن العام دون حجب أو حذف أو اجتزاء.
ثانيا، الضغط السلمي والعلني لسد الثغرات في البنية الدستورية والقانونية المصرية لجهة ضمانات الحقوق والحريات – نحتاج على سبيل المثال لتحديد قانوني قاطع لجرائم التعذيب وعقوباتها، ولتنقية المواد الدستورية والقوانين من نصوص قديمة وحديثة تعصف بحقوق وحريات المواطن، وتهدد قواعد التقاضي العادل، وتفتح الباب واسعا لتوظيف غير عادل للقانون يتعقب ويقمع ويظلم الفقراء وليس الأغنياء، الضعفاء والمهمشين وليس الأقوياء والقادرين، المختلفين مع منظومة الحكم/ السلطة ومعارضيها وليس جموع المؤيدين والمنتفعين والسائرين في الركب والصامتين خوفا.
والإشارة هنا إلى نصوص دستورية وقانونية تقضي بجواز محاكمة المدنيين عسكريا، وتتوسع في اختصاصات القضاء العسكري، وتلغي الحد الزمني الأقصى للحبس الاحتياطي، أو تتسم بصياغات مطاطية ــ كما في تعديلات قانون العقوبات وفي قانون الإرهاب والكيانات الإرهابية ــ ليس لها غير أن ترتب تراكم المظالم والانتهاكات.
ثالثا، الضغط السلمي والعلني لصون مرفق العدالة ــ القضاء ــ من الاختلالات التي يحدثها به تطبيق نصوص التعقب والقمع والظلم ونصوص الصياغات المطاطية هذه، وحمايته من اهتزاز الثقة العامة به بفعل تراكم المظالم والانتهاكات.
رابعا، مراقبة ومساءلة ومحاسبة مرافق إنفاذ القانون المتحصنة باستخدام قوة الدولة الجبرية، وفي مقدمتها وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية، لجهة الالتزام بمبادئ سيادة القانون وضمانات حقوق وحريات المواطن. ويرتبط بذلك توثيق جميع الانتهاكات التي تتورط بها مرافق إنفاذ القانون، والكشف العلني عنها، والضغط السلمي من أجل الوصول إلى مساءلة ومحاسبة منضبطة وإلى جبر للضرر عن الضحايا ــ اليوم، على سبيل المثال، تتواتر أنباء حالات التعذيب والموت داخل أماكن الاحتجاز الشرطية وإساءة استخدام القوة الجبرية والسلطة الرسمية من قبل بعض عناصر الأجهزة الأمنية، وجميع ذلك يستلزم المساءلة والمحاسبة.
خامسا، الضغط السلمي والعلني لتطبيق مبدأ الرقابة القانونية الشاملة لكافة مؤسسات وأجهزة الدولة ــ المنتخبة والمعينة، وخضوعها دون استثناء لآليات وإجراءات المساءلة والمحاسبة القضائية. وليس لغياب مبدأ الرقابة القانونية الشاملة أو لضعف تطبيقه من نتائج سوى حضور دولة الاستبداد والمؤسسة الواحدة والحاكم الفرد.
سادسا، ولأن النواقص الراهنة بشأن سيادة القانون ذات صلة عضوية بالأحداث المتتالية منذ صيف 2013، يستدعي تجاوزها التمسك بالإدانة المبدئية للمظالم والانتهاكات التي تورطت بها مؤسسات وأجهزة الدولة في فض اعتصامي رابعة والنهضة أو في التعامل مع الفعل الاحتجاجي لجماعة الإخوان وأنصارها بعد 3 يوليو 2013 والمطالبة بالمساءلة والمحاسبة وجبر الضرر في إطار منظومة للعدالة الانتقالية ــ تماما كما ينبغي دون معايير مزدوجة إدانة ممارسات الخروج على القانون والعنف التي حدثت في الاعتصامات أو تكررت في مسيرات ومظاهرات الإخوان وارتبطت بخطاب كراهية ضد المجتمع وبتبرير فاسد لحمل السلاح وللإرهاب وللقتل، والمطالبة بمساءلة ومحاسبة قانونية منضبطة للمتورطين والمحرضين.
سابعا، التمسك بموقف الإدانة المبدئية للمظالم والانتهاكات التي تتورط بها مؤسسات وأجهزة الدولة ضد شباب وطلاب ومواطنات ومواطنين يرفضون السلطوية الجديدة ويأبون الصمت عن القمع وتهجير المواطن من المجال العام، تماما كما ندين الخروج على القانون والنظام العام وممارسات العنف من قبل نفر من المواطنين ونطالب بمحاسبتهم.
الدولة الوطنية
تمثل الدولة الوطنية العادلة والقوية، شأنها شأن الديمقراطية وسيادة القانون، مقوما أساسيا ﻹخراج الوطن من متواليات الاستبداد والإرهاب والتخلف المتكالبة عليه والمحيطة بنا. الدولة الوطنية العادلة والقوية هي دولة المؤسسات والأجهزة القادرة على احتكار الاستخدام المشروع للقوة الجبرية لتمكين المواطن والمجتمع من الوجود الآمن والتعايش السلمي ودون انتهاك للحقوق وللحريات، دولة المؤسسات والأجهزة الملتزمة بسيادة القانون ومضامين العدل والحياد والتوازن في إدارتها لترابطاتها مع الناس ومبادراتهم الطوعية غير الربحية (المجتمع المدني) والربحية (القطاع الخاص)، دولة المؤسسات والأجهزة الحامية لحقوق وحريات الناس والمحترمة لقيم الشفافية والمساءلة والمحاسبة ومكافحة الفساد وسوء استغلال المنصب العام والمبتعدة عن التورط في التستر على مظالم أو انتهاكات أو ممارسات فاسدة، دولة المؤسسات والأجهزة الممتنعة عن صراعات المصالح والحسابات الضيقة والرافضة إن لوضعية «نحن فوق القانون» الاستبدادية، أو للاستعلاء على المواطن بتغييب الحقائق والمعلومات والحيلولة دون مشاركته في الشأن العام، دولة المؤسسات والأجهزة الباحثة عن الصالح العام وعن صناعة التقدم بالشراكة مع مبادرات المواطن التي يحفل بها فضاء المجتمع المدني والقطاع الخاص، دولة المؤسسات والأجهزة التي لا تجعل من ذاتها منظومة حكم أبدية ليس لها غير أن تتسم بالاستبداد والقابلة لتداول السلطة بين أغلبيات وأقليات تبدل ممارسة المواطن لحق الاختيار الحر ونتائج الانتخابات مواقعها.
واليوم في مصر، ولكي ننتصر لهذه الدولة الوطنية العادلة والقوية ولكي ننجو من متواليات الاستبداد والإرهاب والتخلف، يتعين علينا الاجتهاد لتكوين جبهات سلمية وعلنية تدفع في الاتجاهات التالية:
أولا، احتكار الدولة الوطنية لحق الاستخدام المشروع للقوة الجبرية هو ضرورة وجود لها وضرورة حياة وتعايش للمواطن وللمجتمع. وفي أوضاعنا المصرية الراهنة التي تنشر بها عصابات الإرهاب والعنف والتطرف خرائط دمائها وتحمل السلاح وترتكب جرائمها وتخرج على القانون، وفي أوضاع جوارنا الإقليمي الذي تتصاعد حروبه الأهلية وحروب الكل ضد الكل العبثية، يقتضي ذلك التضامن مع مؤسسات وأجهزة الدولة في مواجهتها للإرهاب وللعنف والإصرار على حتمية المزج بين الأدوات العسكرية والأمنية وبين الأدوات القانونية والتنموية والمجتمعية وعلى حتمية أن تتوقف الدولة عن التورط في العصف بسيادة القانون وفي انتهاكات للحقوق وللحريات وفي إجراءات العقاب الجماعي وسوق المبررات الفاسدة لذلك تحت يافطة «مقتضيات الحرب على الإرهاب».
ثانيا، الدولة الوطنية العادلة والقوية هي نقيض دولة حكم الفرد، هي نقيض دولة الوضعية الاستثنائية للمكون العسكري الأمني وهيمنته على إدارة الشأن العام واستتباع مؤسسات وأجهزة الدولة الأخرى على نحو يرتب انهيار أدوارها وتآكل فعاليتها، هي نقيض دولة استبعاد المواطن والمجتمع المدني والقطاع الخاص من المشاركة في إدارة الشأن العام باستقلالية وحرية، هي نقيض دولة التهديد الدائم بالعقاب والقمع والرفض الدائم لتداول السلطة بعيدا عن المكون العسكري الأمني المهيمن وعن النخب المتحالفة معه. وﻷن الكثير من هذه الظواهر الكارثية يحيط بنا في مصر ويزج بنا إلى متواليات الاستبداد والإرهاب والتخلف وينهي فرص استعادة مسار تحول ديمقراطي، فإن مسئوليتنا هي معارضته السلمية والعلنية دون مساومة ــ من داخل الوطن وليس من خارجه.
ثالثا، الدولة الوطنية العادلة والقوية هي أيضا نقيض دولة الامتناع عن تداول الحقائق والمعلومات، هي نقيض دولة الأسرار والاستعلاء على المواطن والمجتمع بتجاهل مقتضيات الشفافية والمساءلة والمحاسبة، هي نقيض دولة فرض الرأي الواحد والصوت الواحد على الناس والصناعة المستمرة لثلاثية الخطر / الخوف / الصمت للحيلولة بين المواطن وبين طرح الأسئلة الضرورية عن تفاصيل القرارات والسياسات العامة وطلب المساءلة والمحاسبة الفعالة لشاغلي المناصب العامة. هنا، وﻷن مصر مازالت دولة «الأسرار الكبرى» ودولة المواطن الذي لا يعلم لا تفاصيل النشاط الاقتصادي لبعض المؤسسات والأجهزة ولا تفاصيل مشاركة قواته المسلحة في الحرب على اليمن، تتمثل مسئوليتنا في توعية الرأي العام وفي المعارضة السلمية والعلنية لاستعلاء منظومة الحكم / السلطة على المواطن والمجتمع ولتداعيات ذلك بالغة السلبية على الدولة الوطنية وعلى منعة مؤسساتها وأجهزتها المرتبطة عضويا بالعدل والشفافية وبقبول شاغلي المنصب العام للمساءلة والمحاسبة وبالإصلاح المستمر وبإشراك الناس.
رابعا، الدولة الوطنية العادلة والقوية هي دولة الحياد إزاء تمايزات المواطنات والمواطنين الاقتصادية والاجتماعية، وهوياتهم الدينية والمناطقية، وتفضيلاتهم وآرائهم في الحياة الخاصة والمجال العام، وتمايزاتهم المرتبطة بالنوع. وإذا كانت قطاعات شعبية واسعة قد رفضت، من بين أمور أخرى، عصف الرئاسة المنتخبة للدكتور محمد مرسي بمبدأ حياد الدولة وتورطها في الترويج لخطاب إقصائي بامتياز لم يتردد في توظيف تمايزات الهوية الدينية والمذهبية وخروجها على القواعد الدستورية والقانونية لتمرير استبعاد شاغلي المنصب العام المختلفين معها وللعبث ببعض مؤسسات وأجهزة الدولة، فإن تراكم المظالم والانتهاكات اليوم باتجاه المختلفين مع منظومة الحكم / السلطة الحالية وتعميم هيستيريا التصنيف والتخوين والعقاب الجماعي ورفض جر الخطوط الفاصلة بين المعارضة السلمية وبين ممارسة العنف وحمل السلاح يباعد أيضا يين الدولة وبين الالتزام بمبدأ الحياد ويعيد في أوساط شعبية غير معدومة الأهمية إحياء الصورة النمطية السلبية عن الدولة «الظالمة» التي تميز ضدهم. هنا أيضا تتمثل مسئوليتنا في المعارضة السلمية والعلنية، وفي الانتصار لحقوق وحريات ضحايا الظلم والتمييز والمطالبة بجبر الضرر عنهم، وفي الضغط من أجل إقرار الدولة لعدالة انتقالية تحاسب على انتهاكات وممارسات التمييز في الماضي القريب والحاضر دون تجزئة وتضع ضمانات واضحة لعدم تكررها أو تكرر الإفلات من العقاب.
إذا كانت الدولة الوطنية العادلة والقوية التي نبحث عن الانتصار لها، هي نقيض دولة العصف بسيادة القانون، وانتهاكات الحقوق والحريات، ونقيض دولة حكم الفرد، ونقيض دولة «الأسرار الكبرى» التي تغيب الحقائق والمعلومات عن المواطن، وتستخف بمقتضيات الشفافية والمشاركة الشعبية، وتتورط في الاستعلاء على قواعد مساءلة ومحاسبة شاغلي المنصب العام؛ فإنها أيضا دولة الحياد إزاء تمايزات المواطنات والمواطنين الاقتصادية والاجتماعية، وهوياتهم الدينية والمناطقية، وتفضيلاتهم وآرائهم في الحياة الخاصة والمجال العام، وتمايزاتهم المرتبطة بالنوع.
وإذا كانت قطاعات شعبية واسعة قد رفضت، من بين أمور أخرى، عصف الرئاسة المنتخبة للدكتور محمد مرسي بمبدأ حياد الدولة وتورطها في الترويج لخطاب إقصائي بامتياز لم يتردد في توظيف تمايزات الهوية الدينية والمذهبية وخروجها على القواعد الدستورية والقانونية لتمرير استبعاد شاغلي المنصب العام المختلفين معها وللعبث ببعض مؤسسات وأجهزة الدولة، فإن تراكم المظالم والانتهاكات اليوم باتجاه المختلفين مع منظومة الحكم / السلطة وتعميم هيستيريا التصنيف والتخوين والعقاب الجماعي ورفض جر الخطوط الفاصلة بين المعارضة السلمية وبين ممارسة العنف وحمل السلاح يباعد أيضا يين الدولة وبين الالتزام بمبدأ الحياد ويعيد في أوساط شعبية غير معدومة الأهمية إحياء الصورة النمطية السلبية عن الدولة «الظالمة» التي تميز ضدهم.
هنا تتمثل مسئولية المواطن في المعارضة السلمية والعلنية لزج منظومة الحكم / السلطة للدولة ومؤسساتها وأجهزتها إلى التخلي عن فريضة الحياد، وفي العمل المستمر للانتصار لحقوق وحريات ضحايا الظلم والتمييز والمطالبة وجبر الضرر عنهم، وفي الضغط من أجل إقرار الدولة لعدالة انتقالية تحاسب على الانتهاكات وممارسات التمييز في الماضي القريب والحاضر دون معايير مزدوجة أو تجزئة وتضع ضمانات واضحة لعدم تكررها ولعدم تكرر الإفلات من العقاب في المستقبل.
الدولة الوطنية العادلة والقوية هي، خامسا، دولة تمتنع عن التغول على مبادرات المواطن الطوعية التي تشغل فضاء المجتمع المدني والقطاع الخاص، وتدرك أن دورها الأساسي بجانب احتكار الاستخدام المشروع للقوة الجبرية لتمكين الناس من الحياة والمجتمع من التعايش السلمي يتمثل في صناعة الشروط العامة للتقدم وللتنمية المستدامة ومن ثم تحفيز المجتمع المدني والقطاع الخاص على إنجازهما ودفع البلاد إلى الأمام. هي، إذن، ليست دولة فرض القيود السلطوية على المنظمات غير الحكومية وفاعلي المجتمع المدني المتنوعين، وليست دولة استتباع القطاع الخاص عبر ثنائيات تأييد الحكم نظير الحماية والعوائد، وبكل تأكيد هي ليست دولة محاباة رؤوس الأموال الكبيرة على حساب أصحاب الاستثمارات المتوسطة والصغيرة أو التمييز ضد المشاركين في القطاع الخاص دون ثنائيات التأييد نظير الحماية والعوائد. بل هي دولة تشجع نشاط المجتمع المدني وتضع قواعد شفافة ونزيهة للمنافسة في القطاع الخاص، وتكثف جهودها في ضبط اختلالات اقتصاد السوق عبر آليات وإجراءات العدالة الاجتماعية وفي الارتقاء بمستويات التعليم والرعاية الصحية وشبكات الضمان وفي مكافحة الفقر والعوز والتهميش والبطالة وفي الالتحاق علميا وتكنولوجيا بالبشرية المعاصرة، وفي التطوير والتحديث والإصلاح الهيكلي المتواصل لمؤسساتها وأجهزتها وتحصينها ضد الفساد والبيروقراطية وسوء استغلال المنصب العام ــ هنا الشروط العامة للتقدم وللتنمية المستدامة التي تقع مسئوليتها على الدولة وليس الإعلانات المتواترة عن مشروعات
كبرى، وهنا مسئوليتنا في الضغط السلمي والعلني على منظومة الحكم / السلطة لكي تتراجع عن تغولها على المواطن والمجتمع وتتحرك بجدية باتجاه الشراكة الحقيقية مع المجتمع المدني والقطاع الخاص.